في الفلسفة الإحتفالية
عبد الكريم برشيد
( فكل ما هو خارج عن ذاتك ليس منك ولا إليك، وكل ما هو لك حقا هو عندك ومعك ، وما في وسع شيء آخر أن يعطيك شيئا، ولا أن يسلبك شيئا )
بترركه ـ رسائل خاصة ـ ترجمة د. عبد الرحمن بدوي
ــ مدخل للبدء ..
إن هذه الإحتفالية، في ذاتها الكائنة والممكنة ، هي بالتأكيد غير ذواتها الأخرى ، المفترضة والمتخيلة ، والتي قد توجدها المرايا المحدبة، أو تتمثلها المرايا المقعرة أو المكسرة ، والتي قد تدرك من هذه الإحتفالية شيئا واحد، ويغيب عنها ـ في المقابل ـ أغلب الأشياء ، أو كل الأشياء، وتحضر صورها المتحركة فقط، وتحضر خيالاتها الشبحية، وتحضر أشكالها البرانية وأصباغها ، ولكنه ـ في المقابل ـ يغيب جوهرها وروحها ، ويغيب محركها المختبئ فيها ، وتغيب طاقتها الإبداعية المحركة لها .
إن الرؤية التجسيدية والتشخيصية ، في عين النقد المغربي والعربي، قد جعلت من هذه الإحتفالية شيئا من الأشياء ، وأعطت لهذا الشيء ـ الأشياء حجما وطولا وعرضا وعمقا ووزنا ، وأعطته شكلا ولونا وأصباغا كرنفالية، وشخصت هذه الإحتفالية في أشخاص ـ مع أنها فكرة أولا ـ وأعطت لهؤلاء الأشخاص أسماء محددة ، وقالت، هذه هي الإحتفالية، كل الإحتفالية، وهي مثل كل الناس تماما ( تأكل الطعام وتمشي في الأسواق ) ومن هنا جاء اهتمامها الكبير بهذه الأسماء، الشيء الذي جعلها تختزل هذه الإحتفالية، بكل أفكارها وتصوراتها واقتراحاتها وشطحاتها وإبداعاتها وسجالاتها وأعمارها، في جماعة من الناس المبدعين والمفكرين والمجتهدين .
إن ما حدث مع الإحتفالية والإحتفاليين ، شبيه جدا بذلك الذي وقع مع إنسان من الناس ، سألوه ما الإنسان ؟ فكان جوابه هو التالي :
ــ الإنسان هو عمرو وزيد ، وهو عبد السميع وعبد البصير، وهو ..
وأكثر النقد النقد المسرحي العربي اليوم، يعرف كل الإحتفاليين، إسما إسما ، ولكنه بالمقابل، يجهل أصل هذه الإحتفالية ، ولا يعرف تفرعاتها ، ولا علم له بفلسفتها ولا بمساراتها ، ولا بجغرافيتها الفكرية والإبداعية .
إن هذه الرؤية التجسيدية والتشخيصية، هي التي جعلت النقد العربي يشيء هذه الإحتفالية، وجعلته أيضا، ينسى ـ أو يتناسى ـ أنها في الأصل منظومة فكرية وجمالية ، وذلك قبل أن تكون أي شيء آخر .
هذا الفعل التشييئي، هو الذي جعل هذا النقد يهتم بشكلها البراني فقط، وجعله يقفز على جوهرها الفكري ، وعلى روحها الجمالي ، وعلى ثوابتها النظرية والإبداعية فيها ، ولعل هذا هو ما جعل هذه الإحتفالية تحتفظ بأسرارها بداخلها ، وجعلها سؤالا معلقا في سماء النقد المسرحي العربي .
( هذه الإحتفالية، تبقى أكبر الألغاز في تاريخ المسرح العربي الحديث ، وهي أكثر التجارب تفجيرا للإختلاف وللجدل، وأكثرها استفزازا للعقل، وأكثرها ارتباطا باللحظة التاريخية، وبقضاياها وبأسئلتها الشاقة والصعبة ) 1
إن هذه الإحتفالية ليست شيئا من الأشياء ، ولكنها فعل وانفعال وتفاعل وفاعلية ، وهي حركية متجددة، لا يعرف لها بدء ، وليس لها ختام، وما يميز هذه الحركية الإحتفالية، هو أنها دائرية أو حلزونية، مثل حركية الطبيعة ، وهي تبدأ دائما، من حيث (تنتهي ) وهي تنتهي إلى حيث تبدأ بداية أخرى جديدة ومتجددة .
إن هذه الإحتفالية، في حركيتها المستمرة والتواصلة ، تجدد أعمارها وحيواتها بشكل دائم ، وهي بهذا ذات طبيعة نارية ونورية ، وذات طبيعة هوائية وزئبقية ، وهذا ما يفسر أن تكون لها قصول ومواسم ، وأن تكون لها عواصف وزوابع ..
إن الإحتفالية اليوم، هي غير احتفالية الأمس ، وهي الآن ـ في هويتها المؤقتة والمتحركة ـ نتيجة طبيعية لرحلتها التي انطلقت ، واستمرت وتواصلت على امتداد ثلاثة عقود ، وبهذا فهي مواقف وسجالات ، وهي حوارات وإبداعات، وهي انتصارات وانكسارات، وهي ابتكارات واكتشافات، وهي حضور وغياب ، وهي تأسيس أفكار وبناء مواقف ، وهي وجود في الأمكنة المختلفة ، وهي سفر بالأجساد الحية ، وهي ترحال بالكلمات وفي الكلمات ، وهي فعل للهدم والبناء ، هدم كثير من الأصنام والأوثان الكثيرة والمتنوعة، سواء في مجال الفكر أوالسياسة أو في مجال الآداب والفنون ، وهي تاريخ من النضاتل ومن التصدي ومن المواجهة العنيفة والقوية، ولقد عاشت هذه الإحتفالية ـ لحد هذا اليوم ـ لأنها تمتلك كل مقومات العيش والحياة ، ولأنها تمتلك ـ بداخلها ـ مناعة للمقاومة الحيوية، وتمتلك طاقتها الروحية والفكرية والنفسية، وتمتلك محركها الذي يحركها ، والذي جعلها تنتقل من السبعينيت من القرن الماضي إلى بداية القرن الحادي والعشرين، وجعلها أبضا، تنتقل داخل الخرائط الجغرافية ، وتنتقل داخل الخرائط الفكرية والإبداعية المختلفة والمتنوعة .
ــ النقد والقبض على الإحتفالية ..
هذه الإحتفالية، وهي أساسا حركة، هل يمكن القبض عليها ؟
جوابا على هذا السؤال ، فقد جاءت الورقة التالية :
( القبض على الإحتفالية والقبض على الريح سواء، إنهما معا فعلان اثنان لحقيقة واحدة تسمى المحال، وفي أحيان كثيرة ، قد يصبح هذا القبض على الريح قبضا على الجمر، ولأننا نتحرك بسرعة كبيرة، ونمشي في اتجاه ما، فإننا من نافذتنا داخل القطار المتحرك أو داخل العربة، لا يمكن أن نقبض على ما نرى، وتخدعنا الأشجار والأزهار وأعمدة الكهرباء، ، ولا نقدر أن نلمس أي شيء، وأقصى ما يمكن أن نصل إليه ونحققه ، هو أن نتفرج ، وأن نحتفل، وأن نحيا اللحظة ، وأن نعيشها، وأن نتذوق ألوانها وأشكالها وأحجامها وأضواءها ، وأن نستمتع بأصواتها وإيقاعاتها وبحالاتها المتدفقة ، وهذا فقط، جوهر ما تهدف الإحتفالية إلى تحقيقه والوصول إليه .
إن من طبيعة الإنسان أن يحتار دائما أمام الكائنات والحالات والمفاهيم الصغرى والبسيطة، فهو يعقد البسيط، ويتوهم الصعوبة في الأشياء السهلة، ويسقط الألغاز والأحاجي والرموز على الحكايات والخطابات المباشرة والتلقائية والواضحة ، بهذه العين إذن، أو بما يشبهها ، تم النظر إلى هذه الإحتفالية، وعليه ، فقد فقد ضروريا ألا يتحقق القبض عليها.
إن الإحتفاية إذن، وبعكس ما قد يظن البعض، ليست بيانات فقط، وليست تنظيرات واجتهادات فكرية، ولا شيء سوى ذلك .
كما أنها ليست تاريخا، أو مجرد جزء أساسي وحيوي من تاريخ الحركة المسرحية في المغرب وفي العالم العربي .
وليست فنونا وصناعات يجمعها جامع إبداعي يسمى المسرح
ولا هي سياسة، صافية ونقية، يمكن أن يكون لها انحياز قدري، إما إلى اليمين أو إلى اليسار .
ولا هي مدرسة للتعليم والتقويم، وذلك من أجل تجسيد الأفكار المجردة وتشخيصها، وتحويلها إلى دروس جاهزة ومعلبة ومقولبة .
إن الإحتفالية، هي بالأساس رؤية، وذلك بأعين مفتوحة على سعتها ، رؤية يشكلها الموضوع وليس الذات، وهي تستكشف ولا تسقط ، وتدرك الحقائق وتصل إلى عتباتها ، وأجمل اللحظات فيها، هي لحظات الكشف، وهي لحظات الوصول والبلوغ، وهي لحظات الإختراق والإحتراق المضيء .
ولأنها رؤية شاملة وكلية ومتكاملة، فهي لا تقبل الإختزال الذي يفيد البتر. إن الحياة كل متكامل ومتقاطع ومتداخل ومتناغم، فهي تلونات وتشكلات وتحولات واختيارات وإشكاليات وحالات وممكنات واستحالات، وهذه العناصر الحيوية كلها لا يمكن إقصاء بعضها لفائدة البعض الآخر، وبهذا يكون للإحتفالية معنى الإضافة، ومعنى التعدد والتجدد، ومعنى الشمول والإكتمال .
وفي كلمة أخيرة أقول :
إن الإحتفالية بسيطة مثل بساطة الحياة، وأنها قريبة وبعيدة مثل قرب وبعد الشمس، فنحن ندرك ضوءها وحرها، ولا يمكن أن نقبض عليها ، وأنها متجددة دائما مثل أمها الطبيعة ، وبأنها جادة وهازلة، وعاقلة ومجنوتة، وحكيمة ومغفلة، تماما كما هي المسرحيات .. مسرحيات الحياة قبل مسرحيات المسرح ) 2
ــ الإحتفالية في العيون التي تراها ..
تحضر الإحتفالية في كثير من الكتابات النقدية، المغربية والعربية، وذلك باعتبارها هاجسا مرعبا ، أو باعتبارها تهمة، أو باعتبارها ذنبا ينبغي التبرؤ منه، أو باعتبارها خطأ يمكن أن يقع فيه البعض دون البعض الآخر، أو باعتبارها مرحلة عابرة، ينبغي تجاوزها عند نقطة ما، أوالقفز عليها ، وهذا هو حال من ( قضى ردحا من الزمن الإحتفالي قبل أن يعود إلى الصواب التجريبي) 3
وبهذا يصبح الفن المسرحي، والذي هو بالأساس تجربة إنسانية مركبة ومعقدة ودقيقة جدا، يصبح مجرد معادلة رياضية بسيطة وبئيسة، وأن يكون محاصرا بين حدين اثنين لا ثالث لهما؛ حد الصوب التجريبي، وحد الخطأ الإحتفالي، مع أن الأصل في فعل التجريب، أنه مجرد آلية فقط، وأن هذه الآلية قد تؤدي إلى الصواب ، تماما كما يمكن أن تفضي إلى الخطأ ، وفي هذه الآلية ، تشترك كل الإجتهادات الفكرية والجمالية المختلفة، ولكن، هي وحدها الإجتهادات العالمة والمبدعة، هي التي تنتهي إلى تأسيس شيء جديد ، والأساس في مثل هذا الشيء دائما ، إما أن يكون صادقا وحقيقيا وجميلا وعميقا ومؤثرا ، أو لا يكون أبدا، وبحسب هاشم صالح فإن ( مفاهيم مثل : الصواب / الخطأ، أو الحقيقة/ الوهم، أو الخير/ الشر، ليست مفاهيم بدهية وواضحة إلى الحد الذي يتصوره الكثيرون. إن هذه المفاهيم التي سادت الفيزياء الكلاسيكية والفلسفة الكلاسيكية، بدءا من أرسطو وانتهاء بهيجل، لم تعد قادرة على الإستمرار اليوم) 4
ولكن هذه المفاهيم البالية، والتي ( لم تعد قادرة على الإستمرار اليوم ) وذلك في البحث العلمي، الجاد والرصين، مازلنا نجد لها وجودا وحضورا ـ وإلى اليوم ـ وذلك في النقد المدرسي، وذلك من خلال ثنائية الصواب والخطأ ، تماما كما نجدها في النقد الأخلاقي، وذلك من خلال ثنائية الخير والشر، أو من خلال ثنائية الحلال والحرام، كما نجدها في النقد الإيديولوجي أيضا، سواء في طبعته القديمة ، أو في طبعاته الجديدة، وبهذا فقد كانت هذه الإحتفالية الواحدة حزمة احتفاليات متعددة ومتنوعة ، فالإحتفالية المدرسية خاطئة ، والإحتفالية الأخلاقية منحرفة ، والإحتفالية الإيديولوجية بورجوازية أو فوضوية أو إنسانوية ..
إن وجود نقد مسرحي، تقيده المفاهيم القديمة والبالية، وتتحكم فيه الأحكام الجاهزة والمعلبة، ويحاول دائما، أن يتحسس الإبداع والفكر بحاسة واحدة ، وأن ينفتح على هذا العالم، إنطلاقا من زاوية واحدة ، زاوية حادة وضيقة جدا، وأن يركز على الأسماء بدل المسميات، ومثل هذا النقد، الحاد و المحدود، هل يمكن أن يفهم روح الإحتفالية، وأن ينفذ إلى جوهرها ، وأن يقرأ ألواحها الظاهرة والخفية؟
إن مثل هذا الإنغلاق النقدي ، سواء في ذات المعلم، أو في ذات الفقيه ، أو في ذات الزعيم، هو الذي جعل د. مصطفى رمضاني يقول ( بيد أنه مع ذلك نلاحظ أن كثيرا ممن يكتبون النقد المسرحي عندنا مازالوا لم يتحرروا كليا من الطابع الإيديولوجي أولا، ومن النظرة الأحادية إلى النص، وإلى مضمونه على الخصوص ثاني، أو من النظرة التجريبية للعرض ثالثا، أو من القراءة الإسقاطية لبعض المناهج رابعا ) 5
وهو بهذا يميز بين النقاد المسرحيين الحقيقيين ، وبين من ( يكتبون النقد المسرحي عندنا) وذلك من غير أن يكونوا نقادا بالضرورة.
إن أهم ما يميز النقد المدرسي، أنه يترجم أكثر مما يكتب، وفي ترجمته كثير من الخيانة، وأنه يقتبس أكثر مما يبدع ، وفي اقتباسه معلومات كثيرة، وعلم قليل، وأنه يكدس الأجوبة، ويستعرضها، أكثر مما يبحث عن الأسئلة ، وأنه يلخص المعرفة الواسعة واللامحدودة، ويختزلها في القواعد القليلة والصغيرة، وأنه يذهب إلى الإبداع المسرحي الحي، والموجود الآن ـ هنا، وذلك مرورا بالمناهج الجاهزة والمعلبة، والتي أسسها ـ هناك ـ إبداع آخر مختلف، وذلك في سياق معرفي وجمالي مختلف ، وفي إطار شروط تاريخية واجتماعية مختلفة ومغايرة ، ومن ( طبيعة ) الإحتفالية ، باعتبارها إبداعا جديدا، وباعتباها حيوية متجددة، أنها لا تقبل الأحكام النقدية المستورة والمقتبسة، وأنها لا يمكن أن ترتدي إلا أزياءها الحقيقية ، وهذا ما يفسر عجز هذا النقد عن قراءتها قراءة حقيقية .
إن الإحتفالية تمشي إلى الأشياء، وتذهب إلى الأفكار، وترحل إلى الكلملت، وتنجذب إلى الصور ، وذلك من أقصر طريق ، وهي في هذا تردد مع مع عبد الله ـ في مسرحية ( يا ليل يا عين ) ( إن الطرق القصيرة يا عبد الله تطيلها المنعرجات الكثيرة والكبيرة ) 6
إن الحقيقة ، كما تراها الإحتفالية ، موجودة في عالم رحب متحرك، وهي نفسها ذات متحركة ومحركة ، وبهذا فإنه لا يمكن أن يعرفها القاعدون، أو أن يقترب منها المنتظرون، وعلاقة الإحتفالية بالنقد المدرسي وبالنقد الإيديولوجي أيضا، مثل علاقة عبد الله بعبد الصير في مسرحية ( يا ليل يا عين ) يقول الأول للثاني :
( أنا رجل مشاء، وأنت رجل قاعد، وكيف تريد أن تفهمني أو أن تفهم هذا العالم الذي يجري؟ ) 7
إن هذه الإحتفالية، وهي تؤكد على الرؤية والرؤيا ، وعلى النظر والتنظير، وعلى الجهاد والإجتهاد، وعلى السفر والترحال ، وعلى النشوء والإرتقاء، وعلى التحرر والتثوير، وعلى التنبؤ والإستشراف، وعلى الحس والخيال ، وعلى الممكن والمحال، وعلى العيد والإحتفال،لا يمكن أن تدركها العيون المغمضة أبدا ، أو أن تفهمها العقول المعتقلة، وبهذا فقد كانت هذه الإحتفالية ( كبيرة في العيون الكبيرة، وصغيرة خارج العيون الصغيرة ) 8
إن الإحتفالية تؤسس الأفكار، وتبني المعاني، ولكن النقد المدرسي يستظهر المعلومات فقط، وكيف يمكن أن يكون اللقاء بينهما ؟
يقول عبد الله لعبد البصير في نفس المسرحية ـ الإحتفال :
( حاول أن ترى أولا يا عبد البصير، وجاهد من أجل أن ترى بشكل صحيح، وأن تتحرر من عماك ومن صممك ومن جهلك ومن قيدك ومن مكانك ومن لحظتك، وأن تكون مشاء مثلي ) 9
ويتحدث عن المسرح الإحتفالي صوت جاد من سوريا ، ويقول ( لا يخفى على القارئ المتتبع، والباحث المجتهد إنتشار المسرح الإحتفالي في بعض الأقطار العربية ـ وخاصة المغرب ـ وتجربته التي تأخذ استطالة معينة يوما بعد يوم ) 10
أما الناقد المسرحي الأردني جمال عياد فيقول ( إذا كان المغربي عبد الكريم برشيد من أهم الذين نظروا للمسرح الإحتفالي المتأسس على جماليات الفرجة الشعبية ، فإن خالد الطريفي يعد من النفر القليل عربيا، الذي استطاع أن يكرس نفسه أحد صانعي هذا المسرح على أرض الواقع من خلال مجمل عروضه الذي كان مؤلفا ومخرجا لها ) 11
ومن الكويت، يأتينا صوت الباحث المسرحي خالد عبد اللطيف رمضان، وهو يتحدث عن ( طبيعة المتفرج العربي ) وعن دور الجماعات المسرحية العربية ، وذلك في ( فهم ) هذه الطبيعة المفترضة، والتي لا يمكن أن يكون لها وجود أبدا، وذلك مادام أن الأصل هو الفعل الإبداعي قبل أي شيء ، إن الجمهور هو حالات متفدقة أولا ، وهو ذوق أو أذواق ثانيا ، وهو غول خرافي بملايين الرؤوس ثالثا ، وهو انفعال آني ووجداني رابعا، يقول د. خالد عبد اللطيف رمضان ( وتظل الجماعات المسرحية رغم اجتهادها تدور في أطروحاتها حول هذا الموضوع، في دائرة التنظير المجرد البعيد عن البحث الموضوعي المتأني الذي يغوص في واقع الحركة المسرحية للتعرف على طبيعة المتفرج لدينا وإدراك احتياجاته وفهم ذوقه، وأساليب الفرجة لديه، لتحقيق التواصل معه وجذبه إلى صالات العرض المسرحي، ومن ثم تشكيل الجمهور الذي نريد من خلال خطة متأنية )12
أما من المغرب ، فيمكن أن ننصت إلى د.مصطفى بغداد وهو يقول (ويمكن الإشارة إلى إلى الكاتب المسرحي المغربي الكبير عبد الكريم برشيد الذي ظل وفيا لأصول هذا المسرح وجلاله وحرمته في كل ما كتبه والذي تحس وأنت تقرؤه أو تشاهده بالمتعة والقيمة الفنية والأشكال الفنية التي يدافع عنها هذا المسرح البرشيدي ، والذي يفرز لنا في نهاية المطاف مسرحا مغربيا يطرح قضايا عميقة إجتماعيا وأدليا وفكريا إلى جانب كبير من الأهمية ، الشيء الذي ينسينا بطبيعة الحال ذلك الهذيان المطلق الذي يغرقنا فيه البعض سامحهم الله ) 13
وبخصوص المسرح الإحتفالي ، والذي هو أحد مكونات الحركة الإحتفالية المتعددة والمتنوعة ، يقول الباحث المغربي محمد معتصم، وهو يستعرض الوضع الثقافي بالمغرب ( وفي التجارب النظرية المغربية في المسرح ما يدافع عنه باستماتة الأستاذ عبد الكريم برشيد، وأعني المسرح الإحتفالي، وهو مسرح يقوم في العمق بتثقيف الحلقة، وبالتالي تخليص المسرح من النزعة السياسية ، أو من النظرة الثقافية المتعالية للمسرح، أي أن المسرح الإحتفالي ـ الكرتفالي ـ يقف وسطا بين بين الحلقة كشكل بسيط وشفوي للمسرح ، وبين المسرح الثقافي الذي يميل كلية إلى المرجعية الغربية. إنها محاولة مهمة في مغربة وتأصيل المسرح المغربي، واحتفال بالعادات والجماعة والثقافة الشعبية المغربية، قولا ولباسا وسلوكا ) 14
أما د. عبد الرحمن بن زيدان ، وهو ناقد ومنظر ومؤرخ للمسرح المغربي والعربي ، فإننا نجده يقول ( عندما نذكر برشيد فإننا نذكر الحلقة الهامة في المسرح المغربي والعربي إبداعا وتنظيرا ونقدا، وعندما نذكر هذه الحلقة فإننا نستحضر الأسئلة المقلقة والحرجة والعنيفة والشاعرة التي أطلقها برشيد من أجل تأسيس التأسيس الحقيقي للمسرح للمسرح العربي لغة ورؤية وموقفا وحركة وحيوية )15
إن هذا المسرح إذن ، والذي هو المسرح الإحتفالي ، وبعد ربع قرن من الجهاد والإجتهاد والمجاهدة ، قد حقق قدرا مهما من الذيوع والإنتشار، وحقق نوعا من المصداقية ، واستطاع أن يتمدد طولا وعرضا داخل الجغرافيا العربية ، واستطاع أن يراكم الأبحاث والإبداعات 7والتصورات ، وأن يزداد بذلك نضجا ، وأن يحقق الإنتشار والتوسع ، وأن يزداد خطابه جدية وإقناعا وعمقا ، وأن يصبح له وجود في السودان مع المسرحي المبدع علي مهدي ، ومع مسرح البقعة بمدينة الخرطوم ، وأن تكون لهذه الإحتفالية نكهتها الإفريقية، وروحها الصوفي، وأن يظهر له امتداد في المسرح الكردي أيضا، وأن تكون لتلك الإحتفالية (الأخرى) خصوصيتها اللغوية والفكرية، ويعد ( الفنان والكاتب المسرحي أحمد يالار أحد رواد المسرح الإحتفالي الكردي في كردستان العراق ، ومسرحه أصيل في الشكل والمضمون وله روحية خاصة يتميز بها ، ويجمع مسرحه ما بين إحياء التراث الكردي واستلهامه وإبداعه من ناحية الرؤية الواقعية لقضايا العصر الإجتماعية والسياسية والثقافية) 16
وفي نقده للإحنفالية ، يرى الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس (أنها نظرية مثالية وحالمة لم تستطع أن تبلور مسيرها بشكل يرقى إلى هذا المناخ الإجتماعي والسياسي ) 17
وفعلا، فإن الأصل في الإحتفالية أنها مثالية، وأن مثاليتها تتجه من الكائن إلى الممكن، ومن الواقع إلى الحقيقة، ومن الحلم إلى ما وراء الحلم، ومن الإجتماعي إلى الإنساني ، ومن المحلي إلى الكوني، ومن السياسي إلى الفلسفي، ومن اليومي إلى التاريخي، وإذا كانت ـ لحد الآن ـ لم تبلور ذاتها ، بشكل فوري وسريع ونهائي، فما ذلك إلا لأن حلمها أكبر من إمكاناتها المادية، وأن مشروعها الفكري والجمالي ، أكثر طموحا من هذا الواقع الراكد والجامد والمحدود، وعليه، فقد أمكن أن نقول ما يلي، إن هذه الإحتفالية ـ في اجتهادها وجهادها ـ ليست مسؤولة عن تخلف الواقع العربي ، ولا هي مسؤولة أيضا، عن تخلف القراءات النقدية المحدودة، والتي من هذه الإحتفالية كائنها الظاهر ، ولا تستطيع أن تتمثل ممكناتها الخفية والمضمرة .
يقول غورباتشوف ( المتخلفون سيعاقبهم التاريخ ) ويؤكد الإحتفاليون على النزعة الإستباقية وعلى الرؤية الإستشرافية لديهم ، ويرون أن الرهان على ما سوف يأتي غدا، ليس مثالية فجة ، وليس مقامرة خاسرة، ولكنه بعد نظر، وبهذا فقد أمكن أن نختزل هذه الرؤية الإحتفالية المتحرة في المقولات المختزلة التالية :
ــ الإحتفاليون ملتزمون بالتقدم إلى الأمام دائما ، وهم لا ينظرون إلى الخلف إلا من خلال المرايا .
ــ والإحتفالبون ملتزمون بالتجدد دائما ، وهم يؤكدون على الحقيقية التالية ، أن ما كل لم يتحقق لحد الآن ، لا يمكن أن يكون معناه أبدا ، أنه لن يتحقق بعد الآن .
ــ والإحتفاليون ملتزمون بالتفوق أيضا ، ويرون أن هذا التفوق، يبدأ أساسا بالقفز على وضاعة الواقع والوقائع ، وعلى الإرتفاع عن مستوى الفكر المتوسط والفقير ، وعلى الإنفلات من قبضة الفن السائد والمستبد، وعلى الخروج من دائرة القطيع المتبع ، إلى فضاء السابق المبتدع .
إن الإبداع ـ بحسب الإحتفاليين ـ (يسبقه الهذيان، واليقين يسبقه الشك، والطرق المعبدة يسبقها الحفر، ووحشية هذا الواقع تحتاج إلى الأنسنة وإلى التمدن ) 18
تماما كما أن الضوء تسبقه الظلمة ، وكما أن الفجر يسبقه الليل، وكما أن الوضوح يسبقه الغموض ، وكما أن اليقظة يسبقها النوم ، وتماما كما أن مولد اليوم الجديد، مرتبط أساسا بالحلم الجديد، وهل تكون هذه الإحتفالية ـ في معناها الحقيقي ـ إلا حلما في قامة الإنسان المعاصر ، وفي عمر عقود طويلة ومتتالية من مسار هذا الزمن ؟
إن الأصل في هذا المسرح الإحتفالي أنه تجربة وجودية أولا ، فهو مؤشر قوي على الإحساس يالوجود ، ومؤشر على الإنصات إلى صوت الطبيعة فيه، وإلى صوت الأيام ، وإلى صوت التاريخ ، وإلى صوت التراث الإنساني الكوني ، ولعل أهم ما يميز هذه التجربة هو حيويتها وحركيتها وهو صدقها وتلقائيتها ، فهي بالأساس تجربة صادقة ، وذلك في غير صادق ، وهي حركة مستقباية وحداثية ـ وذلك في سياق عربي رجعي وسلفي ، وهي تجربة منفتحة ، وجديدة ومجددة ، وذلك في إطار مسرح عربي مدرسي ، لا يريد أن يغادر القواعد والقوالب ، أو أن يتحرر من التعليمات التي تأتي من الأعلى أو من الخلف ، أو من الهناك ، وهذا ما جعل الإحتفالية تؤكد على النحن ، وعلى الآن ، وعلى الهنا ، وعلى الفعل بدل رد الفعل ، وعلى الإبداع بدل الإتباع ، وعلى السؤال بدل الأجوبة المعلبة والمحنطة ، هذا المسرح ، يقوم على أساس كتابة إبداعية ( تختصر كل العصر التي عانى منها المغرب والوطن العربي والعالم) 19
أما بالنسبة للكتابات النظرية والنقدية ( فتقدم صورة أخرى من صور هزات العصر المتمثلة في التحولات التي طالت الكتابة الدرامية والوعي النظري في الوطن العربي ) 20
في البدء إذن ، كان هذا المسرح الإحتفالي إسما فقط ، كان وراءه الحلم في التحرر، وفي الإنفلات ، وفي الوجود الحق ، وفي تحقيق الذات، وفي تأسيس الوجود بشكل مختلف ومغاير ، وفي الدفع بالتاريخ في الإتجاه الصحيح ، وفي جعل الفن يحيا في مركز الحياة اليومية ، وليس على هامشها ، وفي تجديد الأسئلة الوجودية وتحيينها ، وفي وضع كل شيء في موضع الشك،
إن هذا المسرح الإحتفالي ، وعلى امتداد ثلاثة عقود ، ظل وحده ـ مسرحيا ـ يصنع الحدث، ويؤسس الفعل ، ويثير حوله رد الفعل ، ولقد تعددت حوله المواقف ، وتنوعت ، وكانت بعدد المتموقفين منه ، ولكن هذا المسرح، قد كان دائما ـ وسوف يبقى ـ جسدا واحدا موحدا، وكان طريقا واحدا ، وكان فلسفة واحدة ، وكان خطابا واحدا ، وبينما كان خطابه الفكري والمسرحي يزداد رسوخا في تربة الأيام والليالي ، فقد كانت كل المواقف الإنفعالية والمزاجية تتطاير في الهواء وتتبخر ، ولقد أصبحت اليوم ـ كلها ـ في ذمة التاريخ .
ولأن هذا المسرح ، لا يكف عن الجهاد والإجتهاد ، فقد ظل دائما في دائرة الضوء ، وظل موضوعا حيويا للإختلاف ، الحقيقي أحيانا، والمفتعل في أغلب الأحيان ، وظل موضوعا للجدل والحوار ، ولتضارب الرأي والرأي الآخر ، ولتناسل المواقف والآراء حوله ، ولقد ( اختلفت آراء الكتاب وتنوعت نظريات النقاد حول هذا المسرح ، فمنها ما يمكن أن نصفه بالتحمس إلى حد المبالغة . ومنها ما يمكن وصفه بالإعتدال ، ويبقى قسم كبير من الكتاب لا يعرفون شيئا عن هذا المسرح)21
ويمكن أن نضيف قسما آخر من الكتاب ، الذين يتوهمون أنهم يعرفون المسرح الإحتفالي معرفة جيدة ، وذلك في الوقت الذي يجهلون عنه كل شيء ، وماذا يمكن أن نعرف عنه ، إذا كان الأصل فيه أنه مشروع ، وكان أخطر ما في هذا المشروع هو ممكناته ، وهو مستقبله المفتوح ، وهو حلمه ، وهو طموحه ، وهو فتوحاته الآتية غدا ، أو بعد غد ، أو في يوم من الأيام ، أو في زمن من الأزمان ..
ــ نقد الإحتفاليين قبل نقد الإحتفالية
وينتقل نقد الإحتفالية ، من فكرها وفنها، ومن نظامها ومنظومتها ، ومن رؤيتها وموقفها، ومن واقعها وتاريخها، لتصل إلى حد نقد شخص الإحتفاليين ، وبذلك يصبح موقفا عدائيا من أسماء فيها، ومن أشخاص معينين ، كل ذنبهم أنهم أصحاب رؤية ، وأنهم أهل تجرية، وأنهم يمارسون النظر والتنظير، وأنهم مختلفون ومخالفون ، ويمتد هذا الموقف العدائي ، المزاجي، ليطال كل من يقترب من هذه الأسماء الإحتفالية الضالة والمضلة ، وفي هذا الموقف، الشاذ والغريب ، يقول الناقد المسرحي المغربي الطاهر الطويل ( ولم يكن الكثير من المنتقدين يقتصرون على تقييم وتقويم الإحتفالية واجتهادات برشيد فيها ضمن إطار معرفي محض وبشكل موضوعي متزن، وإنما كانوا يتحاملون على الرجل، ويقولون فيه ما لم يقله مالك في الخمر ) 22
( إذا حدث أن كسبت صداقة برشيد وعاشرته، فإنك حتما ستؤدي ضريبة هذه الصداقة، لاسيما تجاه خصومه، أو بالأحرى الذين يريدون أن يكونوا كذلك، لأنه على حد علمنا ـ والعلم لله ـ لا يحمل في قلبه غلا لأحد، إنك تصير ـ في عرفهم ـ من " أتباع الإحتفالية " ومن مريدي " شيخها " فكما يريدون أن يحرموا الرجل من أجر الإجتهاد، حتى ولو أخطأ، يودون ـ أيضا ـ تأليب الجميع ضده، فلا يكون له أي صديق ) 23
ــ الإحتفالية والرهان على اللامتوقع ..
إن الأساس في الإحتفال أنه فعل وجودي ، وذلك قبل أن يكون فعلا إجتماعيا، إنه تقليد طقوسي ـ ديني ، إجتماعي ، إقتصادي ـ وفي هذا الطقس تحقق الطبيعة دورتها، وتحقق الساعة دورتها ، وتحقق الأيام دورتها ، ويحقق المجتمع دورته ، ويجدد الجسد دورته الدومية ، وتجسد الروح دورته الروحية ، ولقد سعت الإحتفالية إلى تأسيس تقاليد جديدة في الثقافة المغربية العربية ، وتتمثل بعض هذه التقاليد ـ وهي كثيرة ومتنوعة ـ في إصدار البيانات ، وفي تأسيس الجماعة ـ الأسرة ، والتي هي نواة المجتمع الإحتفالي الممكن ، وفي المزاوجة بين التنظير الفكري والإبداع الجمالي ، وبين الآني والتاريخي وفي الربط بين الثقافة والطبيعة ، ويتجلى هذا في الإحتفاء بالربيع دائما ، ربيع الطبيعة ، وربيع الفكر ، وربيع الأيام ، وربيع العمر ، وةهذا ما يفسر أن تصدر كل بيانات المسرح الإحتفالي في فصل الربع ، وأن تكون تجديدا روحيا وذهنيا يوازي تجدد الطبيعة .
إن تقليد إصدار البيانات، وتقليد الإشتغال داخل الأسرة الروحية والفكرية الواحدة والموحدة ، كان لهما تأثير كبير على الساحة المسرحية المغربية والعربية ، ولقد نتج عن ذلك التأثير ظهور جماعات وبيانات وتكتلات مسرحية ، وظهور أوراق تعلن عن مسارح أو عن اجتهادات فكرية وجمالية ، ولكنها توقفت عند الخطوات الأولى ، وبقيت بلا غد ولا مستقبل ( وبقي التنظير الإحتفالي متواصلا بعد مرور ما يقارب ثلاثة عقود يتحدث عن القالب المسرحي الذي يمكن للفعل المسرحي أن يتمثله، وعلى الرغم من ظهور عدة سجالات وانتقادات تراوحت بين المعرفي والإيديولوجي ، فإن الأهم من هذا كله أن الإحتفالية استطاعت أن تقدم تصورا معلنا لمستقبل المسرح المغربي والعربي) 24
واليوم، وبعد مسيرة ثلث قرن من الزمن، وبعد أن انتظمت هذه المسيرة في تاريخ المسرح المغربي والعربي والكوني في كليته وشموليته وتعدده وتنوعه، وبعد أن أصبحت جزء أساسيا وحيويا في علمه وفكره وأدبه ونقده وصناعاته ، وبعد أن تحولت الأحلام في تلك الإحتفالية الحالمة والشاعرة إلى حقيقة تاريخية، وأضحت إرثا فكريا وجماليا، له قامته وامتداته، وله أفكاره وتصوراته، وله فرضياته ونتائجه ، وله اختياراته وإشكالاته، وله علاماته ورموزه، وله أقفاه ومفاتيحه، وله مناهجه وأدواته ، وله علومه ومصطلحاته، وله كتابه ومخرجوه ، وله نقاده ومؤرخوه ، وله مصادره ومراجعه، وله حالاته ومواقفه ، وله فتوحاته وانكساراته . إن هذه الإحتفالية إذن، وهي بكل هذا الغنى والتنوع ، وهي بهذا الحضور المادي والمعنوي والفكري والجمالي، هل يصح أن ننعتها بأنها مجرد يوتوبيا فقط ، وبأنها مجرد أحلام وأوهام ولا شيء غبر ذلك؟ وهل صحيح أن (الخطابات التنظيرية التي تراكمت خلال العقود الأخيرة والتي ظل يحكمها هاجس الحلم بتحقيق مسرح له خصوصيته المغربية، قد وصلت إلى البابا المسدود ) 25
إن الإحتفالية فكرة ، ولكنها قبل ذلك فعل وحدث، وأخطر كل هذه الأفعال ـ الأحداث، هي تلك التي تأني من غير أن نتوقعها ، ومن غيرأن نتوقع مولدها، ومن غير أن نضبط مسيرتها ومسارها، ومن غير أن ندرك سرها ولغزها، وقد جاء الحدث الإحتفالي بشكل فجائي، وبذلك حقق غرائبيته،و عجائبيته، ودشن صداميته التي هي أساس وجوده، لقد أسس الحدث الثقافي زمن اللاحدث ، وحقق وجوده المثير والمدهش والإشكالي بشكل ( غير متوقع، ذلك أن حدثا نتوقعه يعتبر حدثا وقع مسبقا، من ثم فهو لم يعد حدثا ) 26
إن حدث تأسيس الجماعة الإحتفالية لم يكن متوقعا أبدا، وحدث ممارسة السؤال الفلسفي ـ في الحقل المسرحي ـ لم يكن متوقعا أيضا، وحدث كتابة البيانات وإصدراها، لم يكن تقليدا مغربيا وعربيا، وحدث السباحة الحرة ضد التيار السياسي والحزبي، لم يكن إلا مغامرة سيزيفية، أو مخاطرة دونكشوتية، أو شكلا من أشكال الإنتحار أو الإستشهاد، ولعل هذا هو ما جعل هذا الحدث الإحتفالي، بكل أبعاده ومستوياته ، وبكل تمظهراته وتجلياته المختلفة والمتنوعة ـ يحتفظ بجدته وبجديته فيه دائما ، وهو ما جعله أيضا، لا يضيع ـ رغم مرور الأيام والأعوام ـ عنف الشغب الفكري والجمالي، ولا يضيع رهانه على الآتي، وعلى الممكن ، وعلى المحال ..
لقد كان ضروريا ، بالنسية للإحتفالبة، أن تأتي وفق أحد التصورات الأساسية التالية :
1 ـ أن تأتي وفق ما يتوقع الواقع الفكري والأدبي والفني ، وأن تكون في مستوى التصور الجاهز، والذي له انتماء إلى اللحظة الجامدة والساكنة والمحنطة .
2 ـ أن تأتي في صورة مختلفة ومتخلفة عن هذا الواقع، وأن تكون بهذا أقل مما يتطلبه التصور العام ، وأقل مما يرتجيه الرأي العام والذوق العام.
3 ـ أن تكون أكثر تقدما من الواقع ، وأكثر سرعة من الوقائع ، وأن تكون بهذا مدمرة لكل التصورات الجاهزة، وأن تكون مخيبة لكل التوقعات، ومتجاوزة لكل الإنتظارات ، وأن تكون علاقاتها بالممكن والمحتمل وبالغريب والعجيب ، وبالمثير والمدهش ، أكبر من علاقاتها بالكائن والموجود ، وبالمألوف والمعروف ، وباليومي والعادي ، وهذا ما تمثله الإحتفالية ، وما تمثله صداميتها ، وهو ما بفسر أن تظل محنفظة بجددتها وجديتها ، وبعنفها وعنفوانها ، وأن تظل دائما ـ وعبر توالي السنين والعقود ـ في دائرة الضوء ، وأن تكون مؤسسة للإختلاف الفكري والجمالي .
إن الأساس في الإحتفالية أنها صيرورة قبل كل شيء ، فهي ممكنها قبل كائنها، وهي محركها قبل حركتها ، وهي تحولاتها وتغيراتها قبل بنياتها الثابتة والساكنة ، وبذلك فقد كانت جملة أعمار ، وذلك في مسار حياتي واحد ، الشيء الذي يجعلها تتعدد وتتجدد وتتمدد دائما ، وأن تخرج من حال إلى حال ، وتنتقل من مقام إلى مقام ، وأن تشبه بهذا الفعل الحي ثوابتها ، وأن تخالف ممتغيراتها ، وأن تكون هي هي، وأن تكون غيرها، وذلك في لحظتين عمريتين مختلفتين .
ولعل الخطأ القاتل ـ في كثير من الكتابات النقدية العربية ـ هو افنراضها أن تكون هذه الإحتفالية واحدة ، وأن يكون من الممكن اختزالها ـ كلها ـ في حكم واحد أوحد، وفي رؤية نقدية واحدة ، وفي سؤال نقدي واحد ، وبهذا تصبح بنية تامة ومغلة ، وتنفصل بذلك عن سياقاتها التاريخية والجغرافية والإجتماعية والسياسية والمعرفية والجمالية ، وتكون نتيجة بدل أن تكون مقدمات ، ونكون جوابا بدل أن تكون أسئلة .
إن الإحتفالية إذن، وبالإضافة إلى أنها منظومة فكرية حية، فهي تاريخ حي ، وفي هذا التاريخ يوجد المستقبل أكثر مما يوجد الماضي ، ويوجد المتوقع أكثر مما توجد الوقائع ، وبهذا فهي ذات كائنة وأخرى ممكنة ، والأساس في ذاتها الكائنة، المحدودة في الزمان والمكان ، أنها مجموع مواقفها ومجموع حالاتها ومجموع فعلها ، سواء في الشأن المسرحي، أو في الشأن الإجتماعي والسياسي ، أو في الشأن المعرفي والجمالي، وذلك على امتداد ثلث قرن من الألفية الثانية ، وبهذا أمكن أن نقول ما يلي ، إنه لا يصح أن نفصل تاريخ الإحتفالية الخاص، عن تاريخ الأفكار والتصورات والإبداعات ، وعن التاريخ العام .
إن الأساس في كلمة الإحتفال، أنها تتضمن ملايير الإحتفالات المختلفة ، تماما كما تتضمن ملايير الأعيداد والتظاهرات الإجتماعية والدينية المتنوعة، وبهذا كان الأصل في فعل الإحتفال أنه الواحد المتعدد، وأنه الأصل المتفرع، وأنه المبندأ المتمدد ، وبهذا كانت الإحتفالية حركية قبل كل شيء ، وكانت دينامية، وكانت إنسيابية وجدانية، وكانت تلقائية جسدية وروحية، وكانت عفوية وزئبقية ، وكانت كرنفالية، تتغير فيها الأزياء والأقنعة ، وتتجدد فيها الحالات ، وتتلاقح فيها التصورات ، وتتحاور فيها الذوات ، ويتداخل فيها اليومي والتاريخي ، والديني والدنيوي، والواقعي والأسطوري .
إن الأصل في هذه الإحتفالية إذن، أنها احتفاليات متعددة ومتنوعة ، ولكن أغلب النقد المسرحي، المغربي والعربي، قد اكتفى بقراءة احتفالية واحدة فقط ، وقد اختزل بذلك أعمارها المتتابعة والمتلاحقة والمتناسلة في عمر واحد أوحد ، وشيء طبيعي أن من يحصر نفسه في عمر واحد ، ومن يقف عند درجة واحدة في هذا العمر، فإنه لا يمكن أن يتطور أبدا، ولا يمكن أن يلاحق حركة النمو والإرتقاء ، سواء أكانت في التيارات أو في التجارب أو في الأفكار والتصورات المتحركة ، وبهذا نجد حركية النمو الداخلي متتوقفة في كثير من الإستجابات الفكرية والجمالية ، والتي توقفت عقارب ساعتها عند درجة الصفر، ولم تستطع أن تغادرها ، وأن تتحرر منها .
إن يوم الإحتفال، هو يوم جديد دائما، وهو بهذا لايشبه سائر الأيام ، ولا يمكن أن يكرر غيره من الأيام الأخرى، وما الإحتفالي الحقيقي سوى حالات وجودية متجددة ، وهو يتجاوز ذاته، ويقفز عليها، ويتحداها باستمرار، وعليه، فإنه لا يمكن أن يكرر ذاته مرتين ، ولا يمكن أن يعيش نفس اللحظة مرتين ، أو أن يفكر نفس النفكير مرتين .
إن هذا الإحتفالي الحي ، هو بالأساس حيوية ، وهو معايشة ومكابدة ، ومعاناة ومكاشفة ، وهو فيض حالات صادقة وتلقائية ، وهذا جعله دائما ـ وسوف يجعله أيضا ـ خارج التصنيفات المدرسية والمذهبية ، وخارج التقعيد النظري الضيق ، وخارج التعليمات السلطوية .
إن هذه الإحتفالية، عندما تكون واحدة، وتكون متكررة، وتكون استعراضية وشكلانية ، وعندما يتم تسليعها وتسويقها للعين الأجنبية ، فإنها لابد أن تضيع حقيقتها ، وأن تصبح ( احتفالية ) سياحية وفلكلورية ، وأن تكون بذلك مظهرا برانيا فقط، وذلك من غير أن يكون لها روح جواني ، وأن يكون لها محرك داخلي يحركها ، وبهذا يتم اليوم مسخ كثير من الإحتفالات ومن الأعياد ، وتصبح أشكالا وألوانا ، وتصبح أزياء وأقنعة ، وتصبح مجرد حركات ورقصات بهلوانية، تحقق الإبهار بالنسبة الأجنبية ، والتي تمثلها عين السائح ، وبهذا يصبح الإحتفال مقنطعا من سياقه ، ومن نسبجه المجتمعي والحضاري ، وبذلك يتحول إلى مجرد سلعة ، وذلك في سوق السياحة الكبير .
وفي مقابل هذا الإحتفال ـ السلعة ، هناك احتفال آخر لا يمكن أن يدخل السوق ، ولا يمكن أن يكون إلا احتفلا من أجل الحياة ، ومن أجل الجمال، ومن أجل الإنتشاء الوجودي ، ومن أجل التعبير عن صدق اللحظة الحية.
وبقدر تعدد الحالات وتنوعها ، وبقدر جدتها وصدقها، تتعدد الإحتفالات والأعياد وتتنوع ، ويصبح عددها بلا عد ولا حصر، وبهذا فقد كان الغائب في هذه الإحتفالات الممكنة أكثر من الحاضر فيها ، وكان المجهول في ( طقوسها ) أكثر من المعروف فيها ، وبهذا فقد أمكن أن نقول ما يلي ، إن الإحتفاليين الحقيقيين ينتسبون إلى الإحتفال المطلق ، وليس إلى الإحتفال النسبي ، الشيء الذي يجعلهم احتفاليين بالقوة وليس بالفعل ، وذلك مادام أن الوصول إلى جوهر الإحتفال الحق ، هو أفق بعيد جدا .
إن الأصل في الإحتفالي الحقيقي هو أن ينجذب نحو الممكن دئما ، وأن يهرب من الكائن ، وأن يتجاوز الواقعي إلى الحقيقي، وأن يكون مشاغبا ومتمردا بالضرورة ، وأن يكون مختلفا عن الواقع المختلف ، ومتقدما على الواقع المتخلف ، وأن يعلن العصيان على الرأي العام ، وعلى الذوق العام ، وعلى النظام العام، سواء أكان ذلك في السياسة أو في الحياة الإجتماعية ، أو في الكتابة او في الإبداع، أو في التأريخ للوجدان الإبداعي ..
ــ الإحتفالية هي ممكناتها أيضا ..
في كتاب غبر هذا، سبق وقلت ما يلي ( في هذا الكتاب لا أكتب عن شيء أعرفه، ولكنني أكتب عن أشياء أعشقها وأجهلها. إنني ـ وقلمي ـ منجذبان نحو الأبعد والأجمل والأكمل والأصدق والأنقى والأكثر سحرا وحقيقة وشفافية ) 27
إن ما أعرفه ، ويعرفه معي كل الناس، لا تهمني الكتابة عنه ، وذلك مادام أنه قد انكتب من قبل ، ومادام أنه قد تم التفكير فيه من قبل ، وأهم ما أنجذب إليه دائما، وما أسعى إليه، سواء في كتاباتي النظرية أوالإبداعية، هو اللامكتوب واللامفكر فيه، وهو اللامعروف ، ومثل هذه المعرفة الجديدة، تحتاج بالضرورة إلى وعي جديد ، وإلى عين عذراء جديدة ، وتحتاج إلى حفر طرق مختلفة ومغايرة .
إنني حقا أبحث عن الإحتفالية ، ولكنني لا أرغب أن ألقاها الآن ، ولا أطمع في أن ألقاها غدا أو بعد غد، و( إنني أومن ـ إيمانا صادقا بأن الإحتفالية الحقيقية لا يمكن أن نلقاها عند آخر الطريق ، فهي أفقنا الذي يزداد بعدا، وذلك كلما ازددنا منه قربا ، وهي ظلنا الذي يسبقنا ولا نلحقه، وهي الجمر الملتهب الذي يمنحنا الدفء ، ولكننا لا يمكن أن نقبض عليه ) 28
إن الأساس في الإحتفالية هو أنها طاقة وممكنات ، وأنها فعل وانفعال، وأنها جسد وروح، وأنها سير ومسار، وأنها رؤيةى وموقف، وأنها حركة ومحرك ، وأنها أرضية وسماء ، وأنها وجود وشهوة وجود ، وأنها آفاق وتوقعات ، وأنها حياة واحدة ، ولكن بها جملة أعمار متلاحقة ومتداخلة ومتناسلة ، ويبقى أن نتساءل :
ــ ممكنات الإحتفالية كم عددها ؟ وهل يمكن أن تنتهي يوما ، وأن تقف عند حد معين ، وأن يكون هذا الحد، هو سقف الإحتفالية الأعلى والأبعد، والذي لا يمكن أن تخرج عنه ، أو أن تتجاوزه ؟
ــ وهذه الممكنات ، هل يمكن للإحتفالية أن تحققها كلها ، أو أن ما يمكن أن تصل إليه ـ في المدى القريب والبعيدج معا ـ هو بعضها فقط ؟
إن الإحساس بوجود هذه الممكنات ، وبأنها قابلة لأن تتحقق ، وبأنها الأجمل والأكمل والأنبل ، هو الذي يبرر حركية الإجتهاد الإحتفالي ، ويبرر ها السباق ضد الساعة وضد الواقع وضد المألوف والمعروف ، وضد النمطية في التفكير ، وضد النمذجة في اللإبداع الأدبي والفني .
إن هذا السباق الإحتفالي ، يسكنه الخوف ، ويقيم فيه القلق الوجودي ، ليس ضعفا أمام العدم ، ولكنه توق إلى الكمال ، وشوق إلى الجمال ، وانجذاب إلى الحقيقة ، وذلك في أعلى وأبهى وأكمل صورها الممكنة الوجود .
وانطلاقا من هذا القلق ، يتساءل بيان تازة للإحتفالية المتجددة عن مصير ( الإبداع ـ الأدبي والفكري والفني ـ وذلك في سوق لا تعرف اليوم شيئا ، ولا تعترف بشيء ، إلا إذا كان هذا الشيء سلعة ) 29
إن هذه الإحتفالية ، تحقق وجودها الممكن ، بالإنجذاب الصوفي إلى الآتي المعلق في الغيب ، فهي بالأساس مشروع وجود، ومن طبيعة هذا المشروع المفتوح ، أن يظل دائما مرتبطا بورش البناء وبورش التأسيس، وأن يكون حركية منجددة ، وأن يسعى إلى الإكتمال النسبي، وأن يبتعد ـ بقدر ما يستطيع ـ من الكمال الكلي والمطلق .
إن الأساس في هذا المشروع الإحتفالي هو انحيازه الواعي إلى الإختيارات الصادقة ، وهو حرصه على أن تتعدد هذه الإختيارات ، وأن تتنوع، وأن تتجدد ، وأن يتحرر من الضرورات الطارئة والظرفية ، وأن يتصدى للإكراهات النفعية والمصلحية المؤقتة ، وأن يتحدى الحواجز والمعيقات المختلفة والمتنوعة .
إن هذه الإحتفالية إذن ـ وباعتبارها كائنا حيا ، قبل أن تكون نظرية مجردة ، وباعتبارها حيوية ، قبل أن تكون حركة إبداعية، تعيش وجودها بكل مستوياته ودرجاته وبكل ثزابته ومتغيراته ، وتحيا كل الحالات الممكنة ، البسيطة والمركبة ، ونعيش القلق والرغبة والرهبة والطموح والطمع / ولعل أهم ما يميز هذه الحالات والإنفعالات هو أنها أكبر من رد الفعل الآني المحدود، وأخطر من الإنفعالات الظرفية الطارئة ، والتي قد تكون وراءها الذات المريضة والمتضخمة .
ــ في الإجتهاد الإحتفالي ..
ويتحقق هذا الإختلاف ، فكريا وجماليا ، من خلال الإجتهاد المتواصل، ومن خلال التجربة الصادقة ، ومن خلال التجريب الميداني التأسيسي ، ورغم خطورة هذا الإجتهاد، في شكله ومحتواه ، ورغم جديته وجدته، سواء في التأمل الفلسفي أوفي الكتابة الأدبية أو الإبداعية، فإنه يظل اجتهادا ناقصا بلا شك، وذلك ما لم يواكبه ويسايره اجتهاد آخر مشابه ومختلف في نفس الوقت، إجتهاد يكون له وجود حقيقي ، وذلك في الجانب الآخر من المعادلة ، والذي يتمثل أساسا في القراءة الجادة والجديدة ، وفي التلقي الفاعل والمنفعل ، وفي المشاركة ، وفي التواطؤ، وفي اقتسام المعرفة مع المجتهدين الإحتفاليين ، وفي اقتسام متعة البحث مع الباحثين، واقتسام لذة الحفر والكشف ومتعة السفر والترحال، وذلك في جسد المعرفة ، أو في أدغالها وأحراشها وفي جزرها المجهولة ، وبهذا نجد هذه الإحتفالية، المجدة والمجتهدة والمجاهدة، تقتسم مع د. محمد الزايد رأيه في كتاب ( المعنى والعدم ، بحث في فلسفة المعنى) فهو يرى أن ( .. القارئ الذي لا يعاني التجربة الفلسفية أو يطالعها ، أو لا يستطيع أن يعايشها أو يطالعها ويجهل، بأمية كاملة، الرؤيا الأكثر مما يجب للقراءة والمطالعة والمعاناة ، هذا القارئ ليس قارئي ولست كاتبه.. رغم أمنيتي أن يكون الكل قراء ) 30
إن التأسيس الإحتفالي، سواء في الفكر أو في الإبداع، هو بالضرورة توتر ومعاناة ، وهو قلق نفسي ووجودي، وهو تعب جسدي وشقاء روحي، وهو فعل في الأفكار وفي القيم والأشياء وانفعال بها، وهو نبش في التربة وحفر في الصخر، وهو مخاطرة لها ثمنها الفادح ، ولقد كان الإحتفاليون دائما، على وعي بهذا المأزق وبهذه الخطورة، ولذلك فقد قالوا مع المسيح قولته المشهورة :
( من لم يحمل صليبه ويتبعني فليس جديرا بي )
شيء طبيعي ، أن الذي لا يحيا المعاناة الإحتفالية ، ولا يتمثل تجربتها الوجودية ، ولا يقاسم الإحتفاليين فيها ، طعم الأفكار وطعم الحالات ، فإنه لا يمكن لا يمكن أن بقرأها قراءة صادقة وحقيقية .
إن الأساس في الإجتهاد الإحتفالي أنه صادر عن عقلية جدلية مفتوحة ، عقلية تؤمن بالحوار، وتؤمن بوحدة الحقيقة، وبتعدد وجهات النظر، وهو يؤكد على نسبيته ، وعلى محدوديته ، وعلى تاريخيته، وعلى أنه دينامية فكرية قبل كل شيء ، وعلى أنه ـ في حركيته ـ ينشد الصواب ويسعى إليه ، ولكنه من الممكن أن يلحقه الخطأ ، ولكن هذا الخطأ يبقى عطبا ظرفيا ومرحيا ، وأنه فعل سابق، فعل مؤقت يصححه ، ويعدله الفعل اللاحق دائما ، إن هذا الصواب إذن، بسلطته وسلطانه ، وبكل إغراءاته وغواياته ، هو الذي يحدد وجهة الإحتفالية ، وهو الذي يجعل اجتهادها منجذبا ـ وباستمرار ـ نحو القيم الإنسانية الخالدة والمتجددة .
هذا الإجتهاد الإحتفالي، يقوم أساسا على الإصرار، وعلى التحدي ، ويؤكد على الحضور ، وعلى البحث الميداني ، وعلى أن يتقاطع في محترفه النظري والإبداعي، وعلى أن يتجاور في فضاءاته المعيش والفكر فيه، وعلى أن تتحاور في كونه الأفكار المجردة والمواقف المجسدة ، وعلى أن يكون للجوهر الثابت مجراه التاريخي ، وأن يكون للعرض الزائل لحظته المتحركة والمتغيرة .
إن هذا الإجتهاد الإحتفالي، بعنفه وعنفوانه ، وبجديته وجديده ، وبجرأته وشجاعته، يجد نفسه اليوم، في دولة الكسل العربي ، مبعدا ومنفيا ومقصيا ، ويجد نفسه أيضا ، ومن حيث لا يدري ولا يريد، مثل شيخنا المتنبي ( غريب الوجه واليد واللسان ) ويمكن أن نضيف إلى ذلك أيضا، أنه اجتهاد غريب الفكر ، وغريب الروح ، وغريب المنطق، وغريب الطريق ، وغريب الحالات والمقامات وغريب المواقف أيضا .
ولعل أخطر ما يميز هذا الإجتهاد، هو أنه اجتهاد علني ، وأنه يسعى لأن يظهر كل شيء ، وألا يخفي أي شيء ، وهو لا يتسامح في الحق أبدا، ولا يتساهل في الحقيقة ، وهو يؤكد دائما ـ في أدبياته وبياناته ـ على أن الحقيقة ثورية أو لا تكون، وعلى أن الأصل في فعل الثورة ـ أية ثورة ـ أن يكون فعلا مغيرا، وأن يكون مدمرا ومخلخلا، وأن يكون مؤسسا للقيم الإنسانية الحقيقية ، وذلك على حساب قيم الواقع ، وأن تكون وجهته الآتي والممكن والمحتمل الوجود ، وهو في اجتهاده يصل إلى درجة المجاهدة الصوفية ، وإلى درجة الجهاد من أجل المبدأ.
وسبق لي أن كتيت عن الإجتهاد الإحتفالي في ركن (مقامات اليوم) وذلك في جريدة ( مغرب اليوم) وأعيد اليوم تلك الكلمة بشكل كامل .
( إن الإجتهاد والجهاد كلمتان متلازمتان، ولا يمكن أبدا أن تجد هذه من غير أن تلتحق بها الأخرى.. يقول يحى حقي:
"لااجتهاد قبل فتح باب الجهاد" وذلك باعتبار أن الجهاد هو القوة الدافعة، هو الحركة الديناميكية للدين أو للعقيدة ، بفضلها وبمقتضاها تتحرك هذه الأمة" إن الإبداع الحق هو بالأساس اجتهاد، هكذا هو في معناه الحقيقي، إنه شيء يقتلع اقتلاعا من جوف الزمن، والحصول عليه لا يتم إلا بمقابل حقيقي.. مقابل يمثله الإحتراق والمعاناة والسهر والعذاب والصبر والإعتصار النفسي والذهني والروحي..
إن الإبداع، كولادة، ليس سهلا، وليس هناك شيء أصعب من هذه الولادة، سوى حمايتها والدفاع عنها والبحث لها عن موطئ قدم، ويزداد حجم هذه المسؤولية كلما كان الإبداع جديدا، ومختلفا، ومغايرا، ومتمردا عن الجنس ـ الأدبي أو الفني الذي ينتمي إليه.
إننا نعرف، بأنه لا يمكن الإنتقال من فكر قديم إلى فكر جديد، ومن وعي كائن وسائد إلى وعي منطلق، وذلك من دون أن نخوض ثورة حقيقية في سبيل ذلك... ثورة إبداعية وفكرية تعيد ترتيب البيت الإبداعي بشكل آخر مختلف ومغاير..
إن الإبداع القديم له سدنته وحراسه وزبانيته، وله أمزجته وزواياه التي ترعى "قدسيته" وتدافع عنها، بقوة وعنف، وبهذا فإن أي إبداع جديد، لابد أن يجد نفسه في موقف الجهاد والمجاهدة.
يقول النفري في المواقف "لا يسلم من ركب" والمبدع الجديد هو من اختار أن يركب الصعب.. إن من يركب البحر لايسلم، ومن يركب السماء لا يسلم، ومن يركب مركبة الإبداع لايسلم أيضا.. لايسلم من الأمواج والرياح ومن القراصنة ومن قطاع طرق الإبداع..
ولكن النفري، إلى جانب قوله "لا يسلم من ركب" قد قال قولة أخرى هي "في المخاطرة جزء من النجاة" ومن أجل هذا الجزء، من حظوظ النجاة، يغامرالمغامرون، ويبدع المبدعون ويحلق المحلقون،ويجتهد المجتهدون، إن "جاليلو" قد اجتهد حقا، وقال بأن الأرض تدور، ولكن هذا الإجتهاد ـ النظري ـ ظل ناقصا ، لأنه لم يعززه بالجهاد.. لقد فضل جاليلو المبدع والمفكر والعالم ـ تحت ضغط الكنيسة ـ أن يسحب "اجتهاده" وأن ينتظم في طابور التفكير السائد، ورغم هذا التراجع، فقد احتال على الكنيسة بقولته المشهورة "ومع ذلك فإنها تدور" إن الإبداع هو أنبل السبل وأرقاها وأخطرها وأقدسها للوصول إلى الحقيقة..
وللإقتراب من حياض هذه الحقيقة ، فإنه لابد من الإجتهاد.
ولحماية هذا الإجتهاد من سطوة الواقع وسلطان المنتفعين به، فإنه لابد من الجهاد ) 31
وفي مجال الإعنزاز بفعل الإجتهاد ، يقول الإحتفاليون ( وإذا كان لنا أن ندعي شيئا، فهذا الشيء لن يكون في نهاية الأمر إلا الإجتهاد، والإجتهاد وحده ، أما الصواب والخطأ، فذلك أمر نتركه للزمن الآتي ، وللأقلام التي ندعوها للحوار وللإسهام في بلورة مسرح عربي له هويته وروحه وفكره ولغته) 32
الهوامش :
1 ــ ع . برشيد ـ تيارات المسرح العربي المعاصر من النشأة إلى الإرتقاء ـ الرسالة ـ الباب الخامس
2 ــ ع. برشيد ـ القبض على الإحتفالية ـ جريدة (مغرب اليوم ) ع 36 ـ 09 / 15 سبتمبر 1996 ـ ص 33
3 ــ سعيد الناجي ـ أهل المخابئ ـ جريدة ( الإنحاد الإشتراكي ) 27 ـ 06 ـ 2004 ـ ص 9
4 - هاشم صالح ـ فيلسوف القاعة الثامنة ـ مجلة (الكرمل ) ع 13 ـ 1983 ـ ص 40
5- د. مصطفى رمضاني ـ مستويات القراءة في المسرحي بالمغرب ـ مجلة ( ضفاف ) وجدة ـ ع 7 ـ مايو 2004 ـ ص 62
6- ع. برشيد ـ يا ليل يا عين ـ موال مسرحي ـ 2004 ـ مخطوط
7- المرجع نفسه
8- بيان تازة للإحتفالية المتجددة ـ نازة 15 مارس 2002
9- المسرحية ـ م س
10- د. هيثم الخواجة ـ إشكالية التأصيل في المسرح العربي ـ مركز الحضارة العربية ـ القاهرة 2000 ـ ص 53
11- جمال عياد ـ تجربة خالد الطريفي في تأسيس الفرجة المسرحية ـ مجلة ( عمان ) الأردن ، ع 106 ـ نيسان 2004 ـ ص 62
12- د. خالد عبد اللطيف رمضان ـ طبيعة المتفرج العربي ـ من الكتاب الجماعي ( المسرح وإشكالية الجمهور) 1 ـ اللجنة الدائمة للفرق المسرحية الأهلية في دول مجلس التعاون ـ 2002 ـ ص 146
13- د. مصطفى بغداد ـ المسرح والمجتمع ـ جريدة ( الصباح) 26 /27 ـ 06 ـ 2004 ـ ص 16
14- ذ. محمد معتصم ـ نظرة عامة على الثقافة المغربية المعاصرة ـ مجلة ( عمان ) الأردن ـ غ 108 ـ حزيران 2004 ـ ص 57
15- د. عبد الرحمن بن زيدان ـ التفكير بصوت مسموع ـ أجرى الحوار ـ الكتاب عبد العالي السراج وعبد العزيز بوبكراوي ـ دار النجاح الجديدة ـ الدا البيضاء 2004 ـ ص 67
16- عصمان فارس ـ ستوكهولم ـ الفنان العراقي أحمد سالار وطقوس المسرح الإحتفالي ـ القدس العربي ـ لندن ..
17- نقلا عن د. بن زيدان ـ التفكير بصوت مسموع ـ م س ـ ص 72
18- ع. برشيد ـ الإحتفالية، بيان لآخر القرن ( جريدة الميثاق الوطني ) 23 دجنبر 1999 ـ ص 8
19- بن زيدان ـ التفكير بصوت مسموع ـ م س ـ ص 67
20- المرجع نفسه ـ ص 67
21- المرجع نفسه ـ ص 59
22- الطاهر الطويل ـ عبد الكريم برشيد، المحارب الوديع ، مجلة M2 ـ الدار البيضاء ـ دجنبر 2002 ـ ص 10
23- المرجع السابق نفسه
24- عبد الرحيم اصميدي ـ ملاحظات أولية حول مسارات المسرح المغربي ـ جريدة ( الإتحاد الإشتراكي ) 18 أبريل 2004 ـ ص 9
25- حسن يوسفي ـ التحولات في المسرح المغربي من "دائرة البداهة " إلى " دائرة الإفتراض " العلم الثقافي ـ 14 أكتوبر 2000 ـ ص 6
26- حوار مع جاك دريدا ـ تعريب محمد خير الدين ـ فكر وإبداع ـ ملحق ( الإتحاد الإشتراكي ) 30 أبريل 2004 ـ ص 4
27- ع. برشيد ـ كتابات على هامش البيانات ـ ص 13
28- المرجع السابق تفسه ـ ص 154
29- بيان تازة للإحتفالية المتجددة ـ تازة 15 مارس 2002 ـ ص 21
30- د. محمد الزايد ـ المعنى والعدم ، بحث في فلسفة المعنى ـ منشورات عويدات ـ بيروت ـ ط 1 ـ 1975 ـ ص 14
31- ع. برشيد الإجتهاد والجهاد ـ جريدة مغرب اليوم ـ العدد العاشر ـ 11-17 مارس 1996
32- البيان الثاني لجماعة المسرح الإحتفالي ـ مجلة (البيان ) الكويتية ـ ع 172 ـ يوليو 1980 ـ ص 127