Google
Recherche WWW Recherche sur Votre site
Feed 

 

المسرح ـ الجمهور ـ التلقي

 مخلوف بوكروح

 

   عرفت الدراسات التي تناولت موضوع الجمهور تطورا ملحوظا خلال العقود الأخيرة، وكان الهدف من وراء هذا الاهتمام التحكم في العلاقة التي تربط وسائل الإعلام المختلفة بالجمهور قصد تحقيق بعض الأهداف التجارية وغيرها. وقد كشفت هذه الدراسات عن ارتفاع مستوى مشاركة المتلقي في الفنون أكثر من الوسائل الاتصالية الأخرى، ذلك أن الجمهور الذي يتردد على العروض الفنية، يشارك في العملية الاتصالية متفاعلا مع ظروف الاستماع أو المشاهدة التي تتطلبها طبيعة العرض.

ضمن هذا الإطار نحاول ـ في هذه الورقة ـ طرح مسألة التلقي في المسرح. ويجب التذكير أولا أن جماليات التلقي أحدثت ثورة في الدراسات الأدبية والفنية بحيث جعلت المتلقي هو المركز في تحديد جوهر النص، فتحول بذلك الاهتمام جذريا من البحث عن علاقة الكاتب/النص إلى تحليل علاقة النص/القارئ. تنطلق هذه الدراسات من اعتبار التلقي نشاطا اجتماعيا يخضع لآليات المجتمع ومؤسساته المختلفة، وأن المبدع يكتب من أجل قارئ ما. ويقوم ـ القارئ ـ بدور رئيسي في تشكيل النص أثناء الكتابة، بحيث يصبح مسئولا عن تركيب العمل وإنتاج دلالته، فالمعنى ليس كامنا في النص، بل يقدم ـ النص ـ شبكة من العلاقات، والقارئ هو الذي يختار الشبكة التي تتضح له، وليس بالضرورة أن تكون هي الشبكة الوحيدة في النص.

وقد ظهرت جماليات التلقي كرد فعل للنظريات التي تحصر اهتمامها في عملية إنتاج العمل الفني وإرساله، متأثرة بالمحيط السياسي والاجتماعي العام الذي كان سائدا منذ أواخر الستينيات التي ساعدت على خلخلة المفاهيم السائدة القائمة على التسلط، والتي طرحت ضرورة إرساء قيم جديدة تقوم على مبادئ المساواة. وقد ترك هذا التوجه أثرا في المؤسسات الأكاديمية، وأصبحت تدعو إلى ضرورة إعادة النظر في القواعد القديمة التي تحكم الدراسات الأدبية والفنية.

    أما في المسرح فإن المتلقي لا تقتصر مهمته على عملية المشاهدة، بل تتعداها إلى صياغة التفاعل بينه وبين ما يعرض أمامه فوق الخشبة، وتظهر استجابة الجمهور بصورة مباشرة مما يجعله أفضل مجال لدراسة عملية التلقي. وقد ارتبط الجمهور ـ تاريخيا ـ بالحركة المسرحية، ففي المجتمع اليوناني لم يكن المسرح منفصلا عن مجموعة البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع. وتتضح الأهمية الاجتماعية للمسرح اليوناني في الإقبال الكبير للجمهور على العروض المسرحية التي كانت تقدم في قاعة تستوعب حسب تقديرات المؤرخين أكثر من أربعة عشر ألف متفرجا. وقد بني المسرح وفق تصميم سوسيوميتري خاص، في شكل دائرة يمكن من خلفه رؤية المدينة أثناء العرض. وهذا الإقبال يعكس دلالة العلاقات الاجتماعية التي أفرزها المسرح آنذاك باعتباره حدثا ثقافيا.

إن المسرح هو فن المشاهدة والرؤية، وهذا ما يكشف عنه الأصل اليوناني لكلمة مسرح المشتقة من فعل "يرى". تكمن السمة الجوهرية المميزة للفن المسرحي في الدينامكية التي تشمل المشاركين في أي حدث مسرحي سواء أولئك الذين يؤدون هذا الحدث أو أولئك الذين يتلقونه جماعيا وفرديا كل منهم بطريقته باعتبارهم جميعا مشاهدون فعالون ومنتجون. وفي هذا السياق يرى باتريس بافيس أنه لا يمكننا فهم نص العرض وعملية الإخراج الدرامي التي تعتبر نصا شارحا إلا في ضوء الآليات المختلفة للتلقي سواء كانت هذه الآليات إدراكية أو عاطفية أو أيديولوجية.

وقد أدى الاهتمام بالجمهور إلى تطور الدراسات مستخدمة بذلك أساليب علمية جديدة لتشخيص ظاهرة الجمهور، تج

اوزت حد البحث في السمات المتعلقة بالسن والجنس والخلفية الاجتماعية ودرجة التعليم والحالة المالية وعادات الضحك، إلى الكشف عن التفاصيل الخاصة للمتفرج، حيث تم إخضاع ردود أفعاله للقياس باستخدام العديد من الوسائل التكنولوجية الحديثة مثل التصوير بالأشعة تحت الحمراء وأجهزة القياس عن بعد التي ترصد التغيرات في الوظائف البيولوجية لأفراد الجمهور مثل درجة حرارتهم ونبضهم وغيرها من ردود الأفعال التي يحدثها الجمهور أثناء العرض.

وإلى جانب ذلك فإن المتفرج يسهم في إنتاج المعنى وهذا انطلاقا من أن المسرح يعمل كنظام علامات، يرسل إشارات ورسائل للمتلقي. ذلك أن المتفرج في المسرح هو العنصر الأساسي أو هو "الملك" على حد وصف آن أوبرسفيلد. فمن أجله يكتب المؤلف النص، ومن أجله أيضا يصمم المخرج العرض. ويضطر الممثل عند كل عرض إلى إجراء تعديلات جزئية بالنسبة لجمهور جديد. ويفترض العرض المسرحي اتفاقا مسبقا، ونوعا من العقد الموقع بين المهنيين والمتفرجين، عقد لا يحدد فقط ما المقصود من العرض ولكن طريقة العرض وقانون الإدراك الحسي للمشهد.

هذا وتختلف ردود أفعال الجمهور من عرض إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى. وتلعب المرجعية الثقافية دورا حاسما في تحديد علاقة المتفرج بالعرض. فالمتفرج في الشرق الأقصى مثلا يتابع أحداث القصة ويولي عناية خاصة للعلامات المسرحية التي تتضمنها الأسطورة التي تنتمي لعالمه الثقافي. أما المتفرج في الغرب فيراقب تسلسل القصة التي يلعب فيها التوتر والانتظار دورا حاسما. وفي هذا السياق يستشهد مالك بن نبي بمسرحية عطيل لويليلم شكسبير شاهدها في إحدى العواصم العربية. ويرى أنه إذا كان تأثير هذه القصة في المسرح أو السينما في أوروبا معروف، وخاصة لحظة وصولها إلى حل عقدتها عندما يقتل البطل صاحبته ثم ينتحر، فتثير في وجدان المتفرج انفعالا كبيرا. ويعزو مالك بن نبي هذا الإحساس إلى أن المتفرج الأوروبي عامة يفكر في جو من الحساسية الجمالية، بينما يفكر المتفرج المسلم في جو من الحساسية الأخلاقية، ومن أجل هذا لا يمكن أن يتشابه سلوكهما أمام المشهد الواحد. فعندما يقتل عطيل ديدمونة وينتحر يبلغ انفعال المتفرج الأوروبي أوجه، لأن الدائرة التي يعيشها في تلك اللحظة دائرة جمالية، لأنه يرى نهاية مخلوقين جميلين. بينما يظل انفعال المتفرج المسلم هادئا في هذا المشهد لأن دائرته أخلاقية، فهو يرى قاتلا ومنتحرا.

يبين هذا المثال الدور الذي تلعبه المرجعية الثقافية في موضوع تلقي الجمهور وتفاعله مع العروض الفنية. ذلك أن الصورة الفنية يمكن أن تموت إذا قطعت من وسطها الثقافي المعتاد، وتفقد لغتها معناها. فالفرد إذا ما فقد صلته بالمجال الحيوي يموت موتا ماديا، وكذلك الأمر إذا فقد صلته بالمجال الثقافي فإنه يموت موتا ثقافيا. وتلعب الشفرات المكانية دورا حاسما في التلقي، فالانتقال من النص والقارئ يمتد إلى النص والمتفرج، ذلك أن فعل القراءة الماثل في الزمن يتحول إلى فعل مشاهدة يقع في الزمان والمكان. لأن الدراما تختلف عن الأشكال الفنية الأخرى كالشعر والرواية فتتطلب بعدي الزمان والمكان. ودخول المتفرج في علاقة مباشرة مع العرض. وهذا ما جعل الدارسون يولون عناية خاصة لفهم تنظيم المكان والطرق التي تستخدم بها الشفرات المكانية لتوليد المعنى. لقد تمت الاستفادة من الدراسات التي أجريت في مجال استخدام الإنسان للمكان Proxemics التي قام بها علماء الانتروبولوجيا، حيث أظهرت الكيفية التي تمكن الإنسان من تنظيم مكان معيشته.

ويمكن ملاحظة الأمر ذاته في المسرح حيث يقوم المخرجون بتوظيف الشفرات السلوكية للمكان، إلى درجة جعلها تقوم بدور دينامي ومهم في تنظيم وخلق الحدود بين المتفرج والمؤدي. وهذا بدوره يؤثر في إنتاج المعنى في سياق عرض ما. لقد تغيرت الطريقة التي يقوم بها المسرح بتنظيم فضائه عبر التاريخ، وكانت مشروطة بتطور العناصر الثقافية والاجتماعية والسياسية أو الخاصة بالعرض. ومن هنا فإن استخدام الشفرات المكانية في المسرح يحتاج إلى أن يؤخذ في الاعتبار كلا من التطور التاريخي للفضاء "التعاقبي   Diachronic" و تنظيم الفضاء في إطار فترة معينة "التزامني Synchronic  . ذلك أن الأسلوب الذي يتم به التصميم والبناء هو في حد ذاته علامة ثقافية للمسرح والمجتمع الذي يقوم بخلقها في الوقت نفسه. وتجدر الإشارة أن الشفرات المكانية لا تقوم فقط بتحديد وتشكيل وبناء فضاءات اللعب والمشاهدة، وإنما تتحكم أيضا في العلاقات بين المؤدين على خشبة المسرح من جهة والتفاعلات بين المؤدي والمتفرج من جهة أخرى. بعبارة أوضح إن الطريقة التي يرتب بها الممثلون فوق المنصة تلعب دورا هاما في توجيه وتركيز اهتمام المتفرج. إن الاختلافات في العلاقة المكانية بين الممثل والجمهور يمكن أن تغير بحدة من إدراك المتفرج وتلقيه لعرض ما. وكون المتفرج يجلس في الصف الأول يمكن أن يخلق علاقة حميمية مع المؤدي لا يحس بها شخص يجلس في مؤخرة القاعة. وبالمثل فإن العلاقات المكانية بين المتفرج والمتفرج يمكن أن تعدل رؤيته وتوجه "قراءته" لعرض ما.

إذا كان المسرح لا يمكن فصله عن الثقافة التي تنتجه، فإن ذلك يفترض عند القيام بقراءة المنتج الثقافي ضرورة فهم منطق البناء الخاص به، ونوعية الشفرات الجمالية التي تتدخل في عملية تشكيله. وكما يتعامل الفنان مع الوسائط الفنية والتقنية المتاحة في إطار سياقات جمالية محددة، كذلك يقوم الجمهور بقراءة العرض من خلال عمليات تأويلية وسيطة لها محدداتها الجمالية والثقافية. والمسرح لا يجب النظر إليه باعتباره فنا منعزلا عن الممارسة الثقافية بشكل عام.

أما بالنسبة لموضوع الجمهور المسرحي في الجزائر فتجدر الإشارة إلى غياب المعطيات الأساسية التي تمكننا من الحكم على حجمه وطبيعته. فالبيانات المستخرجة من أرشيف المؤسسات المسرحية الجزائرية تبين الإقبال المحدود وغير المنتظم للجمهور على العروض المسرحية. ومن ثم لا يمكن الحديث عن جمهور مسرحي الذي يفترض أن يتردد باستمرار على المسرح، وهذه العملية مرهونة بطبيعة الحال بوجود حركة مسرحية واسعة ونشيطة. وتكشف هذه المعطيات أن المؤسسة المسرحية الجزائرية لم تتمكن من إقامة حوار مع الجمهور، ولم تجعل من العرض المسرحي حدثا ثقافيا يسهم في إرساء عادة المشاهدة وتكريس تقاليد الذهاب إلى المسرح، فلم تعمل ـ المؤسسة المسرحية ـ في هذا الاتجاه بحيث تجعل من قضية الاتصال هدفا استراتيجيا، ولم تؤسس فضاءات مسرحية تتناسب والبيئة الثقافية الجزائرية، وذلك اعتبارا من طبيعة الفن المسرحي التي تفترض التعامل مع عمليتي الإنتاج والتلقي بوصفهما عمليتان تتحدان وتشكلان حدثا اجتماعيا وثقافيا. وهذا ما تؤكده الدراسات الحديثة التي ترى ضرورة توسيع دائرة الاهتمام بالجمهور بحيث تشمل الظروف الاجتماعية والثقافية التي تتحكم في تعرضه للمسرح من خلال الدراسات الدورية للجمهور من قبل هيئات ومؤسسات متخصصة. 

كل هذه المعطيات تشعرنا بعدم وجود سياسة للإنتاج والتوزيع المسرحيين، وقد انعكس عدم التخطيط وفقدان البرمجة الدقيقة على إقبال الجمهور، فضلا عن الضعف في التنظيم. كل هذا أدى إلى عدم إرساء تقاليد اجتماعية يتبعها الجمهور في إقباله على عروض المسرح. ومن هنا فإن موضوع الجمهور يبقى محل دراسة ميدانية قائمة على البحث والاستقصاء للوصول إلى تحديد طبيعته من خلال مجموعة من الفرضيات والأسئلة للكشف عن الدوافع التي تجعله يقبل على المسرح، وما هي الخلفية الفكرية التي يحملها قبل مشاهدة العرض وبعده؟ ويبقى العمل على دراسة السبل التي تحاول ربط الجمهور بالمسرح، ولن تتم هذه العملية إلا بمعرفة اهتماماته وطبيعته اعتمادا على الدراسة العلمية.

مخلوف بوكروح

جامعة الجزائر

 

 المراجع

_Anne Ubersfeld, Lire le Théâtre, Editions Sociales, Paris 1982

 _Anne Ubersfeld, L, Ecole du Spectateur: Lire le Théâtre (2), Editions Sociales, Paris, 1981

_Raymond Ravard et Paul Anrieu, Le Spectateur au Théâtre, Institut de Sociologie, Université libre de Bruxelles

_Patris Pavis, Problèmes de Sémiologie Théâtrale, Les Presses de L'université du Québec, Montréal, 1976 

_Gourdon Anne_Marie, Theatre Public Perception, Editions du SNRS, Paris, 1982

ـ إلين أستون وجورج ساقونا، المسرح والعلامات، ترجمة سباعي السيد، أكاديمية الفنون، القاهرة، 1996

ـ باتريس بافيس، لغات خشبة المسرح، ترجمة أحمد عبد الفتاح، أكاديمية الفنون، القاهرة، 1994

ـ ماري إلياس وحنان حسن قصاب، المعجم المسرحي، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 1997

ـ روبرت هولب، نظرية التلقي، ترجمة عز الدين اسماعيل، النادي الأدبي الثقافي، ط1،جدة، 1994

ـ سوزان بينيت، جمهور المسرح : نحو نظرية في الإنتاج والتلقي المسرحيين، ترجمة سمح فكري، أكاديمية الفنون، القاهرة، 1995

ـ مخلوف بوكروح، المسرح والجمهور، 2002

ـ مخلوف بوكروح، التلقي والمشاهدة في المسرح،2004

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 
 



Créer un site
Créer un site